بعيدا عن السياسة وهمومها .
وبعيدا عن الواقع سنركب سفينة الزمان كى تعود بنا الى الوراء قليلا.
سنقف فى محطة الزمن الجميل .
سأقطف لكم من ثمار أشجاره الثمرة الحلوة والثمرة المرة.
سأحكى لكم ذكريات من الفن الجميل فى الزمن الجميل.
حكايتى اليوم عن (العمالقة)...عمالقة الادب والفكر والفن .
حكايتى اليوم او قل صفحة من صفحات ذكرياتى عن اميرالشعراء احمد شوقى
والاديب العملاق(عباس محمود العقاد) واميرة الغناء العربى السيدة (ام كلثوم) .
عشقت فكر العقاد عشقا جنونيا .
و من شدة حبى لفكره واعجابى بشخصيته العصامية حرمت نفسى من القراءة لأى
اديب او مفكر غيره.
استطاع العقاد ان يحبسنى داخل قفص افكاره .حتى أنى قلدته فى (الحب) الذى حرمنى منه.
لسبب بسيط وهو أن أستاذى(العقاد) لم يتهم بالحب ولم يقع فى شباك الحب سوى مرة واحدة
أحب فيها امرأتين فى آن واحد وهما(سارة) و(هند).
بل جعلنى اسيرا لكل من (سارة)و(هند) اللتان كان يهيم بهما (همام) فى رائعته الفريدة (سارة)
او كما يطلق عليها بعض النقاد اسم(عبقرية الشك)مساوية بذلك سلسلة كتبه المسماة(بالعبقريات).
وحبى للعقاد جعلنى اغرق عشقا فى مدرسة (الديوان) تلك المدرسة الادبية التى يتزعمها العقاد
وصديقاه الاديب (ابراهيم عبد القادر المازنى) والشاعر(عبد الرحمن شكرى) وهذه المدرسة تنتمى
الى الثقافة الانجليزية .
وكانت مدرسة (الديوان) تكره امير الشعراء (احمد شوقى) كرها شديدا .
بل وشنت عليه حملة نقدية ساخرة وهاجمت شعره هجوما لاذعا فيما يسمى بكتاب(الديوان).
أما أنا فقد تأثرت بآراء هذه المدرسة وكرهت شوقى وشعره وللحقيقة أنى لم أعرف شوقى ولم أقرأ
شعره ولم افهم منه سوى هذه القصائد او تلك الابيات التى هاجمته بها مدرسة الديوان أوالتى كنا
ندرسها فى الكتب الدراسية .
وفى يوم من الايام كنا نستمع لقصيدة شوقى (سلوقلبى)تشدو بها (ام كلثوم) من الحان (رياض السنباطى)
والتى تقول كلماتها:
سلوا قلبي غداة سلا وتابا
لعل على الجمال له عتابا
ويسأل في الحوادث ذو صواب
فهل ترك الجمال له صوابا؟!
وكنت إذا سألت القلب يوماً
تولى الدمع عن قلبي الجوابا
ولي بين الضلوع دم ولحم
هما الواهي الذي تكل الشبابا
تسرب في الدموع فقلت ولى
وصفق في الضلوع فقلت ثابا
ولو خلقت قلوب من حديد
لما حملت كما حمل العذابا
ولا ينبيك عن خلق الليالي
كمن فقد الأحبة والصحابا
فمن يغتر بالدنيا فإني
لبست بها فأبليت الثيابا
جنيت بروضها ورداً وشوكاً
وذقت بكأسها شهداً وصابا
فلم أر غير حكم الله حكماً
ولم أر دون باب الله بابا
وأن البر خير في حياة
وأبقى بعد صاحبه صوابا
نبي الخير بيّنه سبيلاً
وسن خلاله وهدى الشعابا
وكان بيانه للهدي سبلاً
وكانت خيله للحق غابا
وعلّمنا بناء المجد حتى
أخذنا إمرة الأرض اغتصابا
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال
إذا الإقدام كان لهم ركابا
أبا الزهراء قد جاوزت قدري
بمدحك بيد أن لي انتسابا
فما عرف البلاغة ذو بيان
اذا لم يتخذك له كتابَا
مدحت المالكين فزدت قدرا
فحين مدحتك اقتدت السحابا
سألت الله في أبناء ديني
فإن تكن الوسيلة لي أجــابا
وما للمسلمين سواك حصن
إذا ما الضر مسهم ونابا
.........
غنت (ام كلثوم) فابدعت واطربت السامعين .
وبعد تذوقنا الحان (السنباطى) وصوت (ام كلثوم) بدأنا نتذوق جمال اللغة العربية فى الكلمات التى ابدعها شوقى .
وكان معنا احد مدرسى اللغة العربية من هؤلاءالذين يعشقون (شوقى) عشقا جنونيا والذين يدافعون عنه دفاع الابطال
ويذودون عن مملكة شعر (الشوقيات ).
واخذ استاذنا (عبد الرسول يوسف دياب )المعروف فى عائلة (التماسيح)بالكرنك القديم باسم(عبدالغنى يوسف دياب)
مدرس اللغة العربيةالعاشق لشوقى اخذ يشرح ويمدح فى شعر شوقى ويهيم به شوقا كعاشق يهيم بمحبوبته.
وكلما شرح بيتا من قصيدة (سلو قلبى) احاول أنا ان استجمع فى ذاكرتى فكر العقاد ومدرسة الديوان كى اجد كلمة
او فكرة اهاجم بها شوقى فى شعره وكى أثبت للحاضرين انى من (المثقفين) والعارفين بأسرار اللغة العربية.
الى ان وصل أستاذنا(عبد الرسول او عبد الغنى ) الى قول شوقى :
وعلمنا بناء المجدحتى
أخذنا إمرة الارض اغتصابا.
وهنا دق قلبى طربا فقد وجدت ضالتى المنشودة وبلا استئذان فى الدخول الى الحديث صحت وصرخت بأعلى صوتى
قائلا :
يااستاذ....
يااستاذ عبد الغنى ...
(اناضد شاعركم (شوقى) هذا الذى تمدحونه وكأنه (سيبويه)عالم النحو المعروف.
صمت رهيب.. وسكون عجيب.. ساد مجلسنا.
ثم مزقت حاجز الصمت والترقب قائلاً:
كيف يا أستاذنا (عبد الغنى)يقول شاعركم(شوقى):
(أخذنا امرة الارض اغتصابا ).
ان لفظ (اغتصابا )لا يليق بفتوحات الاسلام تلك الفتوحات العظيمة.
ان لفظ (اغتصابا) هذا لفظ (قبيح) لا يليق ب(شوقى) أن يقوله.ان هذا اللفظ يؤكد زعم المستشرقين
بان الاسلام انتشر بالسيف تبا لشوقى هذا .
نشوتى بالانتصار على (شوقى )لم تدم حتى لثوان معدودة.
فلم اكمل حروف كلمة (تبا) مرة ثانية ولم اعرف من انا؟ واين انا؟ وماذا جرى لى سوى انى طريح
على الارض تحت اقدم الاستاذ(عبد الغنى) وقدافرغ فمه قاموسه اللغوى فى الشتائم بجميع انواعها
مصحوبة باللكمات والركلات والضرب الرهيب وسبنى وسب آبائى واجدادى قائلا :
انت ايها الحقير الذى لا تساوى شيئا تتطاول على سيدك وسيد اهلك وبلدك (شوقى بك) أمير الشعراء.
ودارت الايام ومرت الايام دورة الزمن لادورة ايام ام كلثوم فى اغنيتها (ودارت الايام) ودرست اللغة فى الجامعة
وعرفت أن (شوقى) يستحق بجدارة ان يكون (امير الشعراء).
وقرأت له فوجدته عملاقامتفوقا على جميع شعراء العربية من عصر (امرىء القيس) حتى عصرنا هذا .
أتذكر (ركلات )خالنا(عبدالغنى) مدرس اللغة العربية الذى احيا فى داخلى روح القراءة والبحث عن (شوقى) وشعره .
اتذكر(العقاد) و(المازنى) و(شكرى) و(سارة )و(هند) و(مى زيادة) و(ام كلثوم) و(فيروز) و(اسمهان)و(فريد الاطرش)
و(عبد الحليم حافظ) و..و..غيرهم وغيرهم لا تسع الصفحات كتابة اسمائهم.
اتذكر رواية العقاد (سارة) أو(عبقرية الشك).
(سارة) التى الهمتنى اسم ابنتى (سارة)و(هند).
واتذكرسلسلة(عبقرياته)وخاصة (عبقرية عمروبن العاص)فى اسم ابنى(عمرو) كل هذاحباللعقاد وفكر العقاد .
اتذكر الفن الجميل فى الزمن الجميل والصحبة الجميلة .
أتذكراجمل ايام الصبا فى الكرنك الخالدة فى وجدانى..الكرنك موطن الهوى والشباب والصبا.
الكرنك منذ (آمون)و(تحتمس)و(حتشبسوت)و(أحمس) حتى الشيخ(موسى)أبو على و(يحى الطاهر عبد الله)
و(الحسانى حسن عبد الله).
الكرنك هى(الطوق)وهى(الاسورة).
................
والى لقاء مع صفحة اخرى من صفحات ذاكرتى وذكرياتى عن الزمن الجميل.
الشربينى الاقصرى.
مصر.
الاقصر.
الكرنك القديم.
نجع التماسيح.